أطفالنا والعناد الصيفي

مع بداية الإجازة الصيفية، يتنفس الجميع الصعداء. يغادر الطلبة مقاعد الدراسة، ويأخذ الآباء قسطًا من الراحة من جدول المدرسة وضغط الواجبات والمتابعات والمهام اليومية الروتينية. لكن لا تمضي أيام قليلة حتى تبدأ الشكاوى، ويبدأ التوتر في البيوت: فوضى، الأطفال لا يسمعون الكلام، يرفضون النوم، يصرخون، شجار بين الإخوة على أتفه الأسباب، ويتحول البيت من فرحة بالإجازة ومساحة للراحة، إلى ساحة نزاع يومي بين والدين منهكين وأبناء لا يلتزمون بالقواعد ويقولون "لا" لكل شيء.

لكن، هل العناد ظاهرة سلبية دائمًا؟ أم أنه سلوك طبيعي يحمل رسائل خفية تحتاج إلى قراءة وفهم قبل التوبيخ والعقاب؟ الحقيقة أن العناد ليس مرضًا، ولا عدوانًا مقصودًا، بل هو في كثير من الأحيان محاولة من الطفل لإثبات وجوده وشخصيته "أنا هنا"، "أريد أن أُسمع وأُفهم"، "من حقي أن اختار وأًحقق رغباتي". وهو سلوك شائع في مراحل النمو، خصوصًا حين يغيب الروتين اليومي، وتقل أو تختلط قيود الحياة اليومية، كما يحدث تمامًا في العطلة الصيفية.

في المدرسة، الطفل محكوم بجداول وقواعد واضحة، ويشعر بأمان في النظام. أما في الإجازة، فتسقط تلك الحدود فجأة، فيجد نفسه في فراغ زمني واسع وخاصة في ظل غياب روتين مناسب أو بديل، ومحيط يتوقع منه أن يضبط نفسه دون تدريب أو توجيه، فيبدأ يعبر بالرفض، والتذمر، والعناد، لا حبًا فيه بل خوفًا من التشتت، حيث إن الطفل حين يفقد انتظام يومه يتمسك بالعناد كوسيلة بدائية للشعور بالسيطرة وسط فوضى الوقت والفراغ.

الطفل العنيد ليس طفلًا سيئًا، بل قد يكون ذكيًا، حادّ الشعور، قوي الإرادة، لكنه لا يملك أدوات التعبير السليم عن نفسه، فيلجأ إلى العند والإصرار لتلبية احتياجاته ورغباته، ومنها السيطرة على قراراته، أو مساحة آمنة يُعبّر فيها عن غضبه دون أن يُرفض. في هذا السياق، يجب على الوالدين فهم ما الذي يحاول الطفل قوله من خلال عناده، أفضل من أن يواجهه بالصراخ والتوبيخ والتهديد بالعقاب. مثل، هل يشعر أنه مسموع؟ هل يُمنَح خيارات؟ هل يشارك في صنع القرار؟ هل يقضي وقتًا كافيًا في اللعب والضحك والحوار؟ أم أنه يعيش في بيت تحكمه الأوامر، والسيطرة بعيدأ عن الحوار والتفاهم؟

في العطلة الصيفية تحديدًا، يصبح العناد أكثر وضوحًا، لأنه ببساطة لم يعد هناك جدول عام يُلزم الطفل بالالتزام به أسوةً بأقرانه في المجتمع، ولا بيئة تضبط إيقاعه، فيظهر التوتر في أشكال متنوعة. الطفل الذي يرفض الاستحمام، أو لا ينام إلا بعد منتصف الليل، أو يصر على الجلوس ساعات طويلة أمام الشاشة، لا يقصد العناد بحد ذاته، بل يبحث عن توازن يحسسه بالأمان والاستقرار الداخلي، أو يُعبّر عن ملل لم يُعالج، أو ينادي على من يسمعه ويتفهمه.

ما نحتاجه ليس فقط تنظيمًا للوقت، بل تنظيمًا للعلاقة. لا نحتاج خطة أنشطة بقدر ما نحتاج خطة حوار. أن نستعيد لغة المحبة بدل لغة الصراخ والتوبيخ والعقاب، أن نسمح لأطفالنا بالاختيار ضمن حدود واضحة، أن نتحول من قضاة يصدرون الأحكام إلى موجهين واستشاريين يصنعون المستقبل، أن نسمع قبل أن نحكم، ونقترب قبل أن نعلو بأصواتنا، فالعناد لا يُكسر بالعناد، بل يُذوّب بالفهم.

الأطفال لا يعاندون من فراغ، بل لديهم طاقة كبيرة من الصعب كبتها، ومشاعر تحتاج إلى من يفهمها ويقدرها، وعقول صغيرة تختبر الحياة من خلال الرفض قبل القبول. لنمسك بأيديهم في هذا الصيف، لا لنفرض عليهم ما نريد، بل لنكن القادة الهادئين والقدوة الحسنة، نسير معهم في رحلة نضجهم. عندها فقط، يتحول العناد إلى حوار، والرفض إلى رغبة في المشاركة، والعطلة إلى مساحة حقيقية للنمو.

مشاركة المقال